الطب اليوناني

الطب اليوناني
بقلم الدكتور عبد العزيز اللبدي


لم يذكر الأطباء ولا مهنة الطب في الياذة هوميروس – التي تعتبر أقدم كتاب يوناني حتى الآن، وقد كتبت في القرن السابع ق.م.(1) ولكن ذكر العديد من الأمراض والإصابات الحربية نتيجة حرب طراودة. وقد أدى تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في اليونان، ونشأة نظام العبودية وتكدس القيمة الزائدة إلى تطور الفنون والعلوم، وازدهار التجارة، وتطور نظام الدولة المدنية. بدأ الطب اليوناني لاهوتياً، يعتمد على معجزات الآلهة وأول طبيب يوناني وهو أسقلابيوس Aesculapius كان له هيكل في ابيداورس يقصده المرضى باعتباره ابن الإله أبوللو، من المرأة كورونيس بعدما فاجأها أبوللو في الحمام(2). وقد قال عنه أبوقراط "إن الله تعالى، رفعه إليه في الهواء في عمود من نور" وكانت الملوك من نسله تدعي النبوة(3). وكان اسقلابيوس تلميذ هرمس الذي يسمى عند العرب إدريس، وعند العبرانيين اخنوخ ومولده بمدينة منف بمصر.. وهناك ثلاثة يحملون اسم هرمس أحدهم في فارس والثاني في بابل، والثلاث في مصر والشام وهم في الغالب شخص واحد(4). وكان عصر اسقلابيوس الذهبي في القرن الرابع والخامس ق.م. وقد استمرت المعابد والهياكل اليونانية تقدم الطب والشفاء لكثير من المرضى إلى عصور متأخرة، وأنشئ العديد من معابد اسقلابيوس في المدن اليونانية المختلفة. وكانت القفزة الكبرى في الطب اليوناني عندما وضع القمايون عام 500 ق.م في كروتون كتاباته عن الملاحظة والتجربة والفرضية والنتيجة(5) ونظرية التجانس بين الأضداد وقال: إن "الصحة هي حالة تناسق أو انسجام بين عناصر الجسم المختلفة، وأن المرض يحدث بطغيان عنصر على العناصر الأخرى، وأن الشفاء هو الانتقال مرة أخرى في حالة الاضطراب إلى حالة الانسجام". وكان أبوقراط متمكنا من العلوم الطبيعية فأدخل الطب في إطار علمي مستعملا الفحص الأكلينيكي والاستنتاج المنطقي. وكانت أهم مبادئ علاجه(6): أولاً :- مبدأ الحيوية: يعتقد أبوقراط أن هناك عنصراً خاصاً غير مادي يحيا به الجسد هو النفس Psyche وهو بمثابة نسيم عابر ينقرض بانقراض الجسد وهذا المبدأ الحيوي للآراء الروحية السائدة في ذلك الزمن. ثانياً :- مبدأ الأخلاط المبني على الاعتقاد بأن الأشياء مكونة من العناصر الأربعة الأساسية، الحار والبارد والرطب واليابس، فإذا كانت هذه الأمزجة في تناسق وتحكم في الكيفية والكمية تمتع الجسد بصحة جيدة. وهي Crasis أي الامتزاج، ولكن إذا زاد أحد الأمزجة أو نقص أو امتنع عن الامتزاج بالعناصر الأخرى حدثت الأمراض Dyscrasis وأكثر الأمراض ناجمة من ازدياد في البرودة أو الحرارة، وهناك تضامن وتماسك في أعضاء الجسم ووظائفه، فإذا مرض عضو أثر على الجسم كله. ثالثاً :- المبدأ الطبيعي أن محاكاة الطبيعة في المعالجة: لقد تحقق لأبي قراط بالملاحظة أن هناك طبائع لا تتغير، ذات صفات ثابتة، ولكل مرض تطور طبيعي ونضوج محدود السير والمصير، وهذا المبدأ يشرف على جميع الوظائف الحيوية، ويقاوم العوامل الهدامة للجسم، وعلى الطبيب أن يساعد الطبيعة لكي تقوم بعملها، فلا بد له أن يعرف البحران أو الخوفة Crisis وهي النقطة الفاصلة في المرض التي تؤذن بالاتجاه نحو التحسن، أو التفاقم وأن يعرف الأيام الحاسمة. فالقوة الطبيعية الشافية، هي حجر الزاوية في الطب الأبوقراطي. ولنظرية الأخلاط مقدمات فلسفية تنطلق من نظرية الأرقام لفيثاغورس وانباذقليس، الذي حدد العناصر الأربعة قبل أبوقراط، وهي الماء والهواء والأرض والنار. ونحن نجد تحديداً للأخلاط الأربعة في الطب المصري القديم فعندهم الأوخدود: الغائط وستي هي المخاط والبلغم ورووث وهي الصفراء. وعرف السومريون 4000 ق.م. ثلاثة عناصر هي الدم. العنصر الأساسي – ثم الماء والنار.. عرف الصينييون خمسة عناصر هي الخشب والنار والأرض، المعادن والماء ولها اتصال بالجهات الخمسة، والحواس الخمسة، والألوان الخمسة، والطعوم الخمسة: حامض، مر، حلو، ملح والقابض. ولكن أبوقراط أدخلها في نظريات فيتاغورس وزينون، وقد ولد أبوقراط في جزيرة قبرص من نسل اسقلابيوس في القرن الخامس ق.م. وكان أهم أعماله أنه خلص الطب اليوناني من الخرافات والشعوذة، وهو أول من أنشأ مستشفى في اليونان إلى جانب بيته سماه (اخسندو كين) أي مجمع المرضى(7). وهو أول من ألف كتباً طبية من اليونانيين واعتبر الطب علماً مستقلاً إذ قال "الطب قياس وتجربة"(. ووضع الأسس اليونانية لمهنة الطب، وقسم الطبيب، ومواصفات الطبيب وقد درس أبوقراط في منف بمصر وتلقى العلوم المصرية الطبية التي كانت تحتفظ بتراث آلاف السنين. وقد أنشئت مدارس لتعليم الطب بعد أن قضى أبوقراط على احتكار عائلة الأسقلابيوس للمهنة، فأنشئت مدارس في قوص وأثينا وكنيدس وقد انتعشت العلوم في اليونان بعد حروب الإسكندر المقدوني 356 – 323 فقد تم نقل العلوم من البابلية والمصرية والفارسية. ونبغ من الأطباء هيروفيلوس(9) في الإسكندرية 300 ق.م. الذي عمل في تشريح الدماغ والجهاز العصبي وفرق بين الأعصاب الحركية والحسية وشرح العين والأمعاء والأعضاء التناسلية، وعرف التخصصات في الطب مثل الجراحة والصيدلة والنسائية، وهو أول من عد النبض بساعة مائية والذي لا شك فيه أنه اطلع على التشريح المصري والتخصصات المصرية، وقد عرف المصريون النبض قبله بألفي سنة. وظهرت عدة مدارس بعد هيروفيلوس أهمها التجريبيون الذين تجردوا من كل تعاليم الطب الفلسفي أو التأملي وأعلنوا سيادة التجربة على أنها المصدر الوحيد لتعلم فنون الطب وقسموها إلى ثلاثة أركان، وهي الملاحظة الشخصية وملاحظة الغير والقياس. واشتهر بعد ذلك المعلم جالينوس الذي ولد في برغامون في آسيا الصغرى عام 130م، والذي ألف ما يزيد عن 400 مؤلف في الطب والصيدلة والتشريح وكان يجري تشريحه على الحيوان، فغلبت الصورة الحيوانية على جسم الإنسان، وكان هذا تطور مهم في الطب اليوناني. وقد طور جالينوس الذي درس في الإسكندرية ومارس الطب في روما نظرية الأخلاط، وأضاف إليها تأثير الجو والفصول الأربعة. (شكل 6) استقلابيوس إله الصب عند اليونان وحدد جالينوس أسباب المرض بالمزاج المورث، وطريق إخراج الفائض من الأخلاط، والمناخ والبيئة بالإضافة إلى عادات الإنسان وأفعاله وطريقته في الحياة. وقد وفق جالينوس بين الفلسفة المنتشرة في ذلك الوقت مع النظرة الغائية للكون التي ترى أن الطبيعة كلها حكمة، وأن كل جزء من الجسم خلق لغرض محدد سلفاً، وأن هناك علاقة بين السبب والغرض، وكانت نظريته التوحيدية إلى الكون والدين – مع أنه مات ولم ينتصر – هي سبب تبني الكنيسة لآرائه وبالتالي خوف تابعيه من مخالفته(10). وقد تبنى نظرياته أيضاً الأطباء العرب مثل ابن سينا وغيره، بالرغم من النقد الذي بدأ يوجه إلى معلوماته التشريحية والطبية. وكان أهم اختراعاته هو الترياق الذي ظل حتى القرون الوسطى مثار جدل وقد ترجمت معظم كتبه إلى العربية ثم إلى اللاتينية، وقد فصلها ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في طبقات الأطباء. وقد تفرع الطب بعد جالينوس إلى مدرستين مدرسة بيزنطة وقد أخضعت الطب للمفاهيم الدينية للكنيسة. ومدرسة الإسكندرية والتي تخرج منها جالينوس وأرخميدس وإقليدس. وظلت محافظة على اتجاهها العلمي حتى سيطرت عليها الكنيسة وقد تبع اليونان في حمل رسالة العلم والطب السريانيون النساطرة الذين هربوا من تعسف الكنيسة في بيزنطة ودخلوا في خدمة داريوس ملك فارس فأسس لهم مدرسة في جند يسابور وهناك تخرج الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب في عهد الرسول، ومن هناك أيضاً انتقل العلم إلى العباسيين حيث ترجمت الكتب إلى العربية منذ أيام الأمويين وبعدها انتقل العلماء والأطباء إلى بغداد بناء على رغبة الخلفاء العباسيين.



1- ديترش توتسكه DICTRICH TUTZKE GESCHISHTE DER MEDIZIN PAGE 13 BERLIN – D.D.R. 1983. 2- ديتلف روستر DETLEF RUSTER ALTE CHIRURGIE page 52 Verlag volkund Gesundheit, Berlin 1985. 3- ابن أبي أصيبعه، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص 4، منشورات دار الحياة – بيروت. 4- ابن أبي أصيبعه – المصدر نفسه ص 319. 5- ديتلف روستر – مصدر سبق ذكره ALTE CHIRURGIE page 59. 6- موجز تاريخ الصيدلة لموجز من تاريخ الطب والصيدلة العرب. 7- ابن أبي أصيبعه – مصدر سبق ذكره ص 47. 8- ابن أبي أصيبعه – مصدر سبق ذكره ص 49. 9- ديترش توتسكه GESHISCHETE DERMEDIZIN page 26. 10- د. غليونجي. ابن النفيس ص 38، الهيئة المصرية للكتاب 1983.