الطب في الجزيرة العربية

الطب في الجزيرة العربية
بقلم الدكتور عبد العزيز اللبدي


تقع شبه الجزيرة العربية في الجنوب الغربي من آسيا، تحدها من الشمال منطقة الهلال الخصيب، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الشرق الخليج العربي، ومن الغرب البحر الأحمر، وهي تتصل جيولوجيا بالعراق وبلاد الشام وقد كانت في العصر الجليدي مروجاً خضراء، آهلة بالسكان، وق ازدهرت في هذه البلاد حضارات شتى: في اليمن وحضرموت والخليج العربي والحجاز وعسير. وسكن هذه المنطقة مجموعة بشرية عاشت منذ أقدم الأزمنة التاريخية. لها سمات حضارية مشتركة، وأن اختلف الأصل الأثنولوجي. وانطلقت من هذه البلاد هجرات متعددة إلى محيطها في بلاد الشام والعراق ومصر. وكانت الهجرة الأولى 5000 ق.م. والثانية 3000 ق.م. والثالثة 2000 ق.م. (ومن المعلوم يقينا أن الذين نشأ منهم مينا وهو أول من عرف من ملوك المملكة المصرية المتحدة قبل 35 قرناً ق.م. من الساميين وأنهم دخلوا مصر ومعهم حضارة أرقى مما كان في مصر وهم الذين جاؤوا بفن التحنيط والكتابة الهيروغليفية)(1). وتحكي الآثار المصرية عن وجود علاقة تجارية وثيقة ومزدهرة بين مصر وموانئ البحر الأحمر في القرن الثلاثين قبل الميلاد، وعن إرسال بعثة خاصة لإحضار الصمغ ذي الرائحة الزكية والحجارة النفيسة(2). وتطورت الحياة في الجزيرة العربية وقامت الدول بتنظيم الري الدائم وبناء السدود، وأول دولة معروفة في اليمن هي دولة المعينيين قبل ألفي سنة قبل الميلاد. ثم تتابعت الدول السبئية والقتبائية وغيرها كثير في اليمن وحضرموت ثم في الخيج العربي. وكان سد مأرب الذي شيد في القرن الثامن ق.م وانهار حوالي القرن السادس أشهر هذه السدود(3). وسبب آخر هجرة عربية من الجزيرة قبل الإسلام. وقد شهدت الجزيرة العربية نهضة حضارية حيث كانت جميع الطرق التجارية في العالم القديم تمر في اليمن وموانئها مثل مخا وعدن في الجنوب أو في البتراء وتدمر في الشمال. وقد شيدت القصور الفخمة وبلغ نظام الدولة درجة عالية من الإتقان والجودة فكان هناك نظام للضرائب والري والأسعار. وما زال الكثير من آثار المنطقة غير مكتشف حتى الآن، ذلك أن معلوماتنا غير كافية لتعطي صورة واضحة عن جميع المرافق الحياتية وخاصة الناحية الطبية. ولكن علاقات الجزيرة العربية التجارية الواسعة وخاصة مع العراق ومصر تشير إلى أن المعلومات الطبية المتداولة في ذلك الوقت لم تكن أقل من ذلك المستوى الذي وصلنا منه بعض الألواح الطبية من العراق وبعض أوراق البردي من مصر، وفي ذلك المستوى من الحياة الاقتصادية والاجتماعية حيث شق التخصص طريقه ونشأت كذلك مهنة الطب والجراحة، إلى جانب الطب اللاهوتي، وانتشار التعاويذ والرقى من قبل العرافين والكهنة، يقول ابن أبي أصيبعه "إن إدريس عليه السلام أول من درس الكتب ونظر في العلوم وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من خاط الثياب ولبسها ورفعه الله مكاناً علياً"(4) وهو الذي علم (اسقلابيوس) إله الطب عند اليونانيين وهذا بداية الختان ويقول الألوسي في بلوغ الأرب(5). "كان للعرب حظ وافر من معرفة الطب المبني في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوراثاً عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج بعقاقير وأدوية من نباتات وأغذية يحصل لغالبهم البرء باستعمالها وفي عرب البوادي اليوم الكثير من ذلك، وقد سمعنا عنهم في هذا الباب عجائب نقلها من شاهدها من الثقات، وكذلك من معالجة الجروح والعاهات، وقسم منهم يعالجون، دواءهم الكي، فيحصل لهم البرء مما يشكون بأقل زمن وأيسر وقت.. وقد كان في الجاهلية من العرب أطباء موسومون بالحذاقة، موصوفون بالرئاسة في الفن غير من كان منهم في اليمن وعند التبابعة فإن هؤلاء لا يمكن حصرهم". وقد ورد ذكر الكثير من الأطباء قبل الإسلام وفي وقت الدعوة مثل الحارث كلدة الثقافي الذي تلقى علومه في فارس واليمن، وله محاورة مشهورة مع كسرى(6). وابنة النضر بن الحارث الثقفي، ابن خالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والذي تعلم الطب من أبيه وسافر في البلاد وقد قتل في غزوة بدر مشركاً. ثم زهير بن جناب الحميري وزينب الأودية من بني أود – والشمردل بن قباب الكعبي النجراني وابن حذيم من تيم الرباب وحماد بن ثعلبة الأزدي وعبدالله أبجر الكناني الذي كان يعلم الطب في الإسكندرية ثم في أنطاكية وحران ورفيدة الأسلمية. وأم عطية الأنصارية التي عاشت في عصر النبي (ص) واشتهرت بالجراحة وكانت تداوي جرحى المسلمين وقتوم على مرضاهم. وكذلك رفيدة التي أمرها النبي (ص) بمداواة سعد بن معاذ الذين إصابة سهم في الأكحل في موقعة الخندق. واشتهرت زينب الأودية بالجراحة ومداواة أمراض العين ومما ذكر عن أبي أبي رميئة أنه كان يزاول أعمال اليد وصناعة الجراح وعاش أيضاً حياة النبي محمد (ص). وقد عرف العرب الكثير من الأمراض الباطنية والأمراض الجلدية والأورام ويذكر الألوسي في "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" الكثير من الأمراض والتي ما زال الكثير منها يحتفظ باسمه كاليرقان والبهاق والحصبة والجدري والناسور والباسور والمغص والاستقساء والثؤلول وحصى الكلى وغيرها كثير، كما عرفوا بط الجروح والحجامة (التشطيب السطحي) والفصد (الجرح العميق) والكي بالنار. ما عرفوا الكثير من النباتات والأعشاب الطبية المحلية والمستوردة والأملاح الطبية وعرفوا نظرية الأخلاط في اليونان التي تقول أن هناك أربعة أخلاط تكون العناصر الأساسية في جسم الإنسان. وأن في توازن التي تقول أن هناك أربعة أخلاط تكون العناصر الأساسية في جسم الإنسان. وأن في توازن هذه الأخلا القيمة وفي انحراف توزانها وعدم توافقها تحدث الأمراض وهذه الأخلاط هي أجسام سيلاة يتحول الغذاء إليها وهي الدم الذي يأتي من القلب والبلغم الذي يأتي من الدماغ، والصفراء التي تأتي من المرارة ويوزعها الكبد والسوداء وتأتي من الطحال والمعدة. ولعل هذه الأخلاط الأربعة كانت معروفة في الجزيرة العربي أيضا كما ذكر أنها كانت معروفة في مصر القديمة. فقد ذكر -الغائط أوخدو- وستيت – بلغم – مرزروت – الصفراء والدم أيضاً كعوامل للمرض وإن لم تذكر مكونات أساسية لتوازن الجسم. وقد جاءت المعلومات الطبية في الإسلام لتشكل قفزة في تراث المعلومات الطبية المتوافرة وارتكزت على عدة نقاط: 1- معلومات أساسية عن خلق وتطور الإنسان ووظائف الأعضاء "إنا خلقنا الإنسان من نطفة امشاج" سورة الإنسان/ 2. "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث، فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى" سورة الحج/ 5. 2- تعزيز الطب اللاهوتي وقد تحولت النظرية من عبادة الأوثان والآلهة المختلفة إلى عبادة الله وحده، وتحول الناس في طلباتهم وخوفهم من هذه الآلهة إلى الله. "واذكر أيوب إذ نادي أني مسني الشيطان بنصب وعذاب" "فاستجبنا له فكشفنا ما به ضر، وأتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعبادين" سورة الأنباء 84. وقد وردت في الأحاديث عن الرقى في علاج الجروح واللذغات المختلفة والآلام وفي الحديث أن رسول الله (ص) قال "خير الدواء القرآن"(7). 3- تعليمات وقائية تبدأ من الوضوء والصيام والحث على الاعتدال قال تعالى "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" صورة الأعراب/ 31. وقال رسول الله (ص ) " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً"(8) وقال رسول (ص) "إذا سمعتم بالطاعون وأنتم بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها". وفي كتاب الطب النبوي لابن تيم الجوزية تفصيل لكثير من التوجيهات الصحية للعيش. 4- الحض على التداوي إذ قال رسول الله (ص) "يا عباد الله أن الله خلق الداء والدواء فتداووا عباد الله" وقد مرض رجل على عهد النبي (ص) فقال صلى الله عليه وسلم "ادع له الطبيب" قالوا يا رسول الله تعني الطبيب؟ قال نعم(9) وقال (ص) "العلم علمان – علم الأديان وعلم الأبدان".. والأحاديث النبوية المتعلقة بالصحة على كثرتها فإنها ليست توجيهات ربانية كما يقول ابن خلدون . "فإنه إنما بعث العلم ليعلم الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العادات وقد وقع له في شأن التلقيح ما وقع فقل "أنتم اعلم بأمور دنياكم" فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث النبوية على أنه مشروع فليس هنالك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيجابي له أثر عظيم النفع ليس ذلك في الطب المزاجي، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية، كما وقع في مداواة البطون بالعسل. والله الهادي إلى الصواب لا رب سواه"(10). وقد قفز العرب قفزة نوعية بعد استقرار الحكم لهم في العالم التقديم فنقلوا كل المعارف الموجودة لدى الشعوب المحكومة وغير المحكومة كالرومان واليونان "واستقى العرب الطب من منبعين أحدهما شربوا منه محليا في البلاد التي فتحوها مثل الاسكندرية وأنطاكية وحران والثاني وردت إليهم مياهه كما ينساب النهر من سيل النساطرة الهاربين من اضطهاد بيرزنطية وغيرهم من العلماء بعد أن أغلقت مدرسة حران 481م ومدرسة أثينا 528"(11) . وأمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز بنقل المدرسة الطبية من الإسكندرية إلى أنطاكية عام 718م وظلت حتى عام 832 حيث انتقلت إلى حران في عهد المتوكل.



1- محمد عزة دروزه "تاريخ الجنس العربي" الجزء الأول ص 26. 2- محمد عزة دروزه – المصدر نفسه ص 36. 3- جرجي زيدان "العرب قبل الإسلام" ص 161. 4- ابن أبي أصيبعه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" ص 32. 5- محمود شكري الألوسي "بلوغ الأدب في معرفة أخبار العرب" ص 327. 6- ابن أبي أصيبعة – عيون الأنباء في طبقات الأطباء – مصدر سبق ذكره. 7- ابن تيم الجوزية "الطب النبوي". توزع دار الكتب السلفيه – القاهرة. 8- د. السيد الجميلي "الإعجاز الطبي في القرآن "ص 267 دار مكتبة الهلال – بيروت. 9- د. السيد الجميلي – الإعجاز الطبي في القرآن – المصدر نفسه. الطبعة الثانية 1985. 10- د. علي عبد الله الدفاع "إسهام علماء الطب والمسلمين في الصيدلة" ص 32. 11- د. بول غليونجي "ابن النفيس" ص 47.